ياسين غلاب يكتب: ثلاثية الأرض والعرض والدين المصرية

لم تصمد دولة أو أمة أمام تحديات التغيير الوجودية العاتية مثل مصر؛ فبقيت مكانًا ومكانة. ذلك لأنها ذات سر مطلسم في شفرة الجينوم، أودعه المصري الأول في أبنائه؛ فظل يتنقل من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء لتبقى مصر على حالها إلى الآن؛ وستبقى ما دامت تحافظ عليه. هو الحبل الساري المضفور من ثلاثة جدائل؛ الذي لا تعرف فيه أي ضفيرة أولى من الأخرى. ومع الزمن والمحن؛ عرف العقل الجمعي المصري والقلب الجمعي المصري؛ متى وأين يحافظ على الجسد كالأرض وعلى النفس كالعرض وعلى الروح كالدين.
وهذا السر لا يموت؛ فالجين وقت أن تكون مصر قوية مستقلة هو ذاته وقت أن تكون ضعيفة مستباحة؛ لكنه يظهر جليا وأكثر سطوعا في حالة الضعف سواء لأبناءها أو لأعدائها. وشهد التاريخ على ذلك أبلغ الشهادات؛ فعندما استشهد سقنن رع في مقاومته للهكسوس؛ بثت “إياحا” زوجته السر في أبنائه؛ فاستشهد كاموس وانتصر أحمس وأكمل تحتمس الثالث المهمة.
وقد يفسر ذلك حركة المصريين عبر التاريخ؛ إذ أنهم قاوموا بضراوة كل محتل أراد أن ينهب الأرض وينتهك العرض ويزدري الدين حتى أجلوهم، كما في حالة الهكسوس والفرس والرومان وغيرهم؛ وهادنوا الإسكندر وخلفائه من البطالمة واحتووهم لأنهم احترموا هذه الثلاثية أو بعضها، وعندما جاء الإسلام فعدل أتباعه في خراج الأرض ولم ينتهكوا العرض وحافظوا على حرية المعتقد؛ تقبلوه حتى أصبحت مصر بيضته وكنانته.
واستكان المصريون للاحتلال العثماني لتدثره بلباس الخلافة؛ ولم ينتهك العرض إلا فيما ندر؛ رغم ظلمه لهم بنظام الالتزام. وقبلوا محمد علي وتجاوزوا عن خديعته؛ لأنه احتكر الأرض وأبقاهم فيها وحافظ على العنصرين الآخرين. وربما لذلك اختلف احتلال فرنسا عن بريطانيا في المدة، فالفرنسيون استباحوا الثلاثية بعجالة، بينما استخدم البريطانيون المكر والدهاء مع القوة؛ وعندما أدركوا استعصاء مصر عليهم، زرعوا الكيان بالجوار.
وفي حرب أكتوبر المجيدة؛ كان ذلك سر الثلاثية الساري واضحًا في عقول وقلوب من استعدوا فحموا العرض بالتهجير وبحائط الصواريخ ثم حرروا أرضهم.
وعندما دخل عليهم الدجال وأتباعه في الخارج والدخل بضفيرة دين مستحدثة وظن أنها ستتآلف مع ضفيرتي الحبل الأخريتين وأنه فاز بالجائزة الكبرى، فوجئ بأن المصريين كشفوا زيفها وأبعدوها إبعاد الشاة الغريبة ومعها كل مخططاته وما أنفقه لكي يتسيد هذا العالم فالمصريون وحدهم هم من يعرفون سر الثلاثية ومتى وأين يستخدمونها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى