ياسين غلاب يكتب: انتقد ثورة 23 يوليو ولكن……
أن تنتقد ثورة يوليو فهذا حقك. أن تحاول أن تدلل على انتقادك بمعلومات تعتبرها حقائق وتنطلق منها إلى حكم عام سلبي عليها فهذا ما أنصحك أن تتوقف عنده. لنفترض أن ما تقوله حقائق أو وقائع أو حتى أرقام؛ فهل ما تقوله هو الحقيقة؟
المنتقدون يقولون لقد كان الجنيه المصري بكذا جنيه استرليني، وكانت هناك أحزاب وانتخابات وتداول للسلطة فيما بينها، وكانت بريطانيا العظمى مديونة لمصر، وكانت هناك شركات كذا وكذا قبل الثورة وكانت الأرض الزراعية نطاقات كاملة وجزأها عبد الناصر رحمة الله عليه…إلخ
ما سبق يدخل في ما يسمى بالوقائع أو الحقائق حتى لو كانت مشفوعة بأرقام؛ لكن بالقطع ليس الحقيقة. أولاً فقد كان الجنيه كما يقولون لكن من كان يملكه؛ ومن كان يستفيد منه؟ نعم كانت هناك أحزاب، لكنها أحزاب تحت الاحتلال، وعندما لا يرضى عنها كان يتدخل ويأتي بحكومة الوفد أو السعديين أو ..إلخ. نعم كانت بريطانيا العظمى مديونة لمصر، فهل استردت مصر دينها؛ وكيف كانت تقترض بريطانيا العظمى، هل برضا مصر أم غصبًا عنها؟ وأخيرًا وليس آخرًا ..ألم توزع الأرض الزراعية على مصريين ولا أقول أنها أخذت من غير مصريين وردت لأصحابها؟
ألم يكن الاحتلال مالك كل شيء في مصر؟ هل عندما يأتي إلى حكمك ابن من أبنائك أو أخ من أخوتك يعيد إليك كرامتك ويصون عرضك ويحاول بذل كل الجهد في أن يعمر وأن يبني وأن يصنع ..إلخ؛ بل أن يكون حديث الدنيا بأسرها، ويكون لمصر في عهده دور في السياسة الدولية برمتها وينشئ قطبًا ثالثا هو عدم الانحياز حتى لو لم يحالفه الحظ ..إلخ؛ ترفض كل ذلك وتحن إلى “بيادة” الأجنبي وكرباج الأجنبي وصفعات الأجنبي وتحرشات الأجنبي وأن تكون في جيش الأجنبي لتقتل بعيدًا عن أرضك وأهلك فلا يجدون لك أثرًا أو يعرفون بأي أرض قتلت.
أتفهم أن يكون أقارب الملك أو من عملوا معه أو من خدموا في قصوره وقصور طائفته وأتباعه من ينتقدون الثورة وما أنجزته، فلقد كانوا منتفعين من ذلك؛ لكن كيف يقبل هؤلاء من أعادت إليهم كرامتهم وإنسانيتهم الثورة، ومن علمتهم وعالجتهم وأسكنتهم الثورة ..إلخ بذلك؟. غالب الظن أن هؤلاء وقعوا فريسة لمضللين يستخدمون المناهج الغربية التي تعمل على اجتزاء المعلومات؛ والتي تفصل بين الحقائق والحقيقة؛ وبين المعلومات والأنماط التي تختفي ورائها؛ وبين الوقائع وسياقها؛ فلم يجتهدوا في أن يقرأوا ويبحثوا فيعرفون عن مصر وقدرها وموقعها وموضعها وعن تهديداتها وتحدياتها ومخاطرها.
وهذه المناهج لها مدرسة كاملة ولا يزال يتبعها الكثيرون؛ وستجدها حاضرة قوية حتى الآن، بدءًا من الإشاعات مرورًا بالتركيز على عنصر واحد من الإنجازات وإهمال المئات غيرها، واستغلال الأزمات والتركيز على العنصر الضعيف فيها، وليس انتهاءًا بالمقارنة بين مصر ودول أخرى، خذ على سبيل المثال المقارنة الظالمة بين مصر وفيتنام..إلخ.
هذه المدرسة تسمى بالمدرسة المعلوماتية التراكمية؛ والتي أبرز تجلياتها الصحافة الاستقصائية أو الاستبيانات أو الجداول أو استطلاعات الرأي، والتي ينتج عنها في أغلب إن لم يكن كل الأحيان تحليل سطحي للمضمون؛ بل هي بالفعل تلاعب بالمعلومات من أخطر ما يكون. أدوات هذه المدرسة محببة للكثيرين لأنها تعطيهم معلومة على هواهم لا يجتهدون في أن يفهموها في سياقها.
بل إن كثيرًا ممن يسمون بالباحثين يعشقونها، لسهولة الإنتاج العلمي من خلالها؛ فهؤلاء يهوون التفكير السهل المباشر وثقافة “التيك أواي” و”التيك توك والفيس بوك” من أجل أن يسبق أسمائهم “حرف الـ د” ويهربون من التفكير الواعي العميق الذي خلفه قلق وجودي عميق على وطنهم والذي يؤدي إلى مشروع حضاري وطني مستقل زيسعى لتجذير الرؤية والهوية الوطنية ويبث حلمًا وأملًا في مستقبل مصر التي لا يعرفون قدرها مثلما فعل عبد الناصر وزملاؤه ومن أحاطوا به فخلدهم الشعب والتاريخ.