مشاهدات من واقع تجربتى مع كابوس آلزهايمر

بقلم: رباب سعفان

لا أعتقد أبدا أنى سأنسى تلك الجلسة التى أخبرنى فيها الطبيب بأن أمى على مشارف مرض آل زهايمر… قال حينها صراحة إنه لا جدوى من العقاقير.. وكل ما يمكن تقديمه لها من مساعدة، هو مجرد محاولة إبطاء تسارع مراحل المرض المتلاحقة.. وبوضوح أشد لن نستطيع كبح جماح ذلك الوحش، الذى انطلق بالفعل لتدمير خلايا المخ، بشكل تدريجى، دون رحمة أو مهادنة.

وحمدتُ اللهَ كثيرًا أنها لم تسمع ذلك… ومن دون جدوى حاولت التحكم بدموعى، كى أشعرها بأن كل شىء على ما يرام.. إلا أنها كانت تشعر بما تتعرض له.. لكنها اعتقدت أن ما ستفقده هو ذاكرتها فقط، مثلما تُصور الدراما ذلك المرض اللعين… وحقيقة الأمر كانت أشد إيلامًا بمراحل.. فهو يتخذ من الذاكرة المحطة الأولى للانطلاق، ولا يكتفى إلا بأن يدمر خلايا المخ، بشكل تدريجى؛ فيفقد المريض التحكم بكافة وظائف جسده، ليصل الحال إلى عدم القدرة على تحريك حتى الأطراف، لهش ذبابة تقف على وجهه وتشعره بالانزعاج!.

ومن خلال الزيارات المتلاحقة للطبيب، لمتابعة التطور، أخبرنى حينها أن أمى أصبحت شخصًا بلا مشاعر؛ فتعبيراتها عن الحب واهية، لم تعد تمتلكه حتى تعبر عنه أو تستقبله.. بالإضافة إلى أنها كذلك لن تشعر بالألم الجسدى، أو أن شعورها به أصبح أقل كثيرًا، وقتها.. حين قال ذلك.

لم أشعر، ساعتها، بأنى أريد أن أبكى.. فلأمر ما تشككت بشده فيما يقول، رغم شهرته الواسعة، فى خبرة التعامل مع مرضى آل زهايمر، شيئ ما بداخلى كان يرفض هذه الافتراضية، ولم أكترث لما قال ولو بدرجة… إنها إلى الآن تعبر لى عن مشاعرها، وأشعر بصدق ذلك، وليس كما قال الطبيب: إنه أمر زائف.

على كل حال؛ لم يمنعنى ذلك من التعبير الدائم عن شدة حبى لها، وإن لم تستجب.. فأنا من كنت بحاجة إلى ذلك أكثر منها… كنت أشعر بأنى أريد أن أدخُل إلى ذاكرتها، وإن كانت مؤقتة، حتى ترسخ فيها تعبيراتى المؤجلة، عن شدة حبى لها.. فلم يسعفنى الوقت للتعبير عن ذلك فى حينه.. فأصبحت أحارب كى أعبر عنه فى الوقت الذى أصبح، كما اعتقدت من وجهة نظرى مثلما أخبرنى الطبيب، دون جدوى.

وبالفعل تلاحقت مراحل المرض تباعًا، ولم يكن يتشكك أحدٌ حين يراها أنها تحيا فى عالم خاص بها، وأنها انفصلت عن عالمنا تمامًا.. لكنى مَن كنتُ أعلمُ يقينًا بأن ذلك غير صحيح، فلم أشعر مطلقًا أنها فقدت الإحساس بى.. لقد استمرت تلاحقنى بنظراتها، وتبحث عنى حين اتوارى عنها قليلاً.. تتشبث بيدى بقوة، كى تمنعنى عن مفارقتها، حين أحاول المغادرة لقضاء أمر ما، بعدما كنت أجالسها، ويبدو عليها عدم الاكتراث، وكثيرًا ما كانت تربت على يدى، كلما شعرت أنني أبكى لأمر ما آلمنى.

الأقوى من ذلك؛ أنها بعد أن وصلت لمرحلة لا تستطيع الوقوف بمفردها، تعرضت لوعكة صحية، فرأيتها تجرى خلفى كى تطمئن على، وتتحدث إلى بوعى كامل، مائة بالمائة، وبمجرد أن تعافيت قليلاً رجعت إلى ما كانت عليه، وكأن شيئًا لم يكن، لتترك لى حالة من الذهول، وعلامات الاستفهام، التي تبحث عن إجابة.

بل إنها كانت تستجمع قواها، لِتُكَونَ جملةً مفيدة، تسألنى فيها عن أخبار مشكلة عويصة وقعت فيها، وهى التى لا تستطيع أن تتفوه بكلمات مفهومة، أعلم أنها تعرفني، وتطمئن لوجودى، تردد اسمى حين أغيب عنها، وهي التي لا تناديني مطلقًا وأنا بجوارها.. أثقُ أنها تعرفنى، وتقبل منى تحديدًا ما لا تقبلهُ من غيرى.

أتذكر حين كانت إحدى صديقاتى فى زيارتى، وغبت عنها قليلاً لأداء أمر ما، وعندما حاولت مساعدتها، مثلما أفعل، بمسح ذلك اللعاب الذى لم تتحكم فى بلعه، فإذا بها تنطلق فى البكاء خجلاً.. هى لم تفعل ذلك معى قط.. فكيف تتوه عنى؟!، كيف لا تعرفنى؟، وهي تعلم أنه لا ينبغى لها أن تخجل منى… حتى أنها تترك لي جسدها فى انسيابٍ تام، حين أخبرُها أنى بحاجة إلى أن أضمها.. وهى التى تمكنت التشنجات من جسدها.. هى تريدنى أن أضمها، تطلب مني ذلك بقدر ما تستطيع.

إنها ببساطة تتحدى المرض، وتتحدى تلك الخلايا المدمره بالكامل.. حين يتعلق الأمر بشىء يؤلم مَن أحبتها، فكيف بعد كل ذلك، يقول الطبيب إنها أصبحت بلا مشاعر؟!

لا يزال لديها قلبٌ يعرفنى، ويفيض حبًا لى.. فلو أن خلايا العقل تدمرت، فخلايا القلب تأبى، إلا أن تنبض حبًا، إلى آخر دقاته.. أثق فى ذلك.. فقد كانت تخبرنى طوال الوقت بأن ما كنت أقدمه من حب، دون توقع أدنى تأثير، لم يذهب هباءً، وظهر مروده جليًا؛ فكل ما تم نفيه عن تراجع المشاعر أو محقها.. أبدًا لم يكن صحيحًا.

أما الأمر الآخر، المتعلق بانخفاض درجة الشعور بالألم.. فهو كذلك غير صحيح.. إنها مجرد موجات من عدم القدرة على التعبير أو العكس، فكثيرًا ما تعرضت أمى لأشياء مؤلمة، ولم تكن تبدى أى شعور بالألم.. لكنها فى أحيان أخرى ربما كانت تعبر عن ألمها الشديد من مجرد وخز حقنة؟!

تلك المشاهدات جعلتنى أوقن بأن مريض آل زهايمر، قد يفقد القدرة على التعبير، لكنه لا يفقد القدرة على الشعور.. فلو كان المحيطون بهذا المريض، محبين له بحق، فسيظل هناك حبلاً من التواصل لا ينقطع، حتى فى أقصى مراحل المرض تدهورًا.

فلا تركنوا إلى ما يقوله الأطباء، من أن هناك شخصًا، أيا كان ما يعانيه، قد فقد الإحساس بالحب والرعاية والحنان.. فإذا كانت الدراسات الحديثة تؤكد أن المضغة التى لم تكتمل، فى رحم الأم، تتأثر بحالتها النفسية، وتؤثر فيها.. فكيف لشخص مكتمل يمتلك المشاعر والأحاسيس والذكريات أن يُحرم منها؟!

وربما مقولات مثل تلك جعلت الكثيرين يتركون مهام خدمة مرضاهم، إلى دور الرعاية، فزادوهم تيهًا وألمًا، وحرموهم لمسات حانية، فزادوا من حبستهم التى فرضها عليهم المرضُ، وزاد منها عدم قدرتهم على التعبير.  فلا تجعلوا تلك المقولات، تحت مُسمى حقائق علمية، تحول دون التعبير عن مشاعركم تجاه من تحبون، من مرضى آل زهايمر، فالمشاعر لا يمكن أن تحكمها قوانين أوحقائق علمية.. وإنما لها شأنٌ آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى