جوع

في المتجر الكبير جدًا ، الذي يبدو كأنه مدينة شاسعة تحتاج إلى خرائط كثيرة للتجوال فيها ، وجدتني في محيط ( خناقة ) لا أعرف سببها ، زحام شديد ، و أصوات عالية ، وشد وجذب ، فاقتربت أكثر ، وبدأت أفهم .
رجل أظنه في النصف الثاني من الستينات ، يرتدي بدلة رمادية قديمة كالحة اللون ، تحتها قميص باهت متآكل الياقة ، ذو بشرة داكنة توحي بأنه مريض بالكبد أو ماشابه ، ولحية كثة كثيفة الشعر ، ورأس انحسر الشعرعن مقدمته ووسطه ، أمسك به رجال أمن ( الهايبر ماركت ) بعدما اكتشفوا ، عن طريق كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان ، أنه قد سرق شيئًا ما ، من على أحد الأرفف التي تعج بما لذ وطاب وغلا ثمنه من الأشياء ، ودسه تحت (الجاكت القديم ) .
سألت أحدهم : ماذا سرق هذا الرجل ؟
أجاب : كيس عيش بخمسة جنيهات !!!
الرجل ساكت تمامًا ، ساهم مستسلم لأيادي رجال الأمن ، يحركونه كيفما شاءوا ، الناس الملتفة حوله وحول رجال الأمن مختلفون في الآراء ، بعضهم يقول : يستحق مهما كانت ظروفه ، وبعضهم يقول : إنه رجل فقير وكبير في السن ، ولا يستحق كل هذه ( البهدلة ) ، من أجل خمسة جنيات .
حشرت نفسي بينه وبين رجال الأمن ، وحشود الجماهير الملتفة حولهم ، حتى بقيت الأقرب له ، فأحطته بذراعي وجسدي و سألته : لماذا ياوالدي ؟
نظر إليَّ والدموع تتساقط فوق خديه ، ولكنه لم ينطق .
خاطبته : أرجوك أفهمني الحكاية حتى أساعدك ، أنا مثل أولادك .
خرجت الحروف من بين شفتيه بصوت متحشرج يخنقه البكاء ، بينما تنضح ملامحه بكل مافي الكون من ألم وحزن وحسرة : ج ع ا ن يا ول دي .
أحسست أن زلزالا ضربني وضرب العالم كله ، بكيت وصرخت كالمجنون .
دخلت فيما يشبه حالة هستيريا ، أدفع هذا ، وأضرب هذا ، وأشتم وأسب الجميع : رجل كبير ومريض و جعان يا أولاد ( ……. ) ، أيه مفيش رحمة ، كل هذه الإهانات عشان خمسة جنيهات ، كام رغيف عيش يا أولاد ( ……. ) ؟
الرجل منكمش على نفسه خلف ظهري ، يتعلق بي كطفل مذعور يحتمي بأبيه ، أسمع بكاءه ونشيجه ، تخرج منه لفظة ( آآآآآآ0 ) ، بين الفينة والأخري ، محملة بكل مافي العالم من ألم ، ووجع ، وخوف ، وهلع ، ورعب ، فأزداد غضبًا وثورة ، كنت ساعتها ، حقيقة لامجازًا ، لعلى استعداد أن أقتل من يقترب منه .
رميت بالفيزا كارد خاصتي في وجه كبير هؤلاء الديناصورات الذين وقفوا كالتماثيل حولنا لايستطيع أحدهم أن ينبس ببنت شفة ، أمام ثورتي هذه ، بينما يتجمع حولنا آخرون وآخرون ، من الجماهير الذين لفتت هستيريتي انتباههم : خذ يا أيها ( …. ) ما تشاء ، خذ خمسين ، خمسمائة ، خمسة آلاف ، خمسين ألف ، والله لأقتلن أي ( ….. ) تسول له نفسه الإقتراب منه مرة أخرى .
بدأ الحضور يتهامسون : عنده حق ، كيف يهينون رجلًا كبير في السن هكذا ، من أجل كام رغيف عيش ، …. ، … ، ….
فجأة ظهر في المشهد بعض رجال الشرطة ، وقفوا دقيقة أو دقيقتين على مسافة مني ومن الرجل خلف ظهري كالآخرين .
ازددت حدة : وكمان أبلغتم الشرطة ، هو سرق قنبله نووية يا أولاد ( ……. ) ، دول خمس أرغفة عيش يا ( ك… رة ) .
أغرورقت عينا ( النقيب ) الذي وقف يراقبني ويبدو انه فهم الموقف جيدًا ، دون الكثير من الكلام ، فأشار إليَّ أن اهدأ ، ومد يده إلى جيبه وأخرج محفظته قائلًا لأحد الديناصورات هؤلاء : والله لو كان الأمر بيدي لحررت المحضر ضدكم ، خذ ، هذه مائة جنيه ، خد حسابكم والباقي خلوه لكم بقشيش ياشوية ( ….. ) ، ثم وجه كلامه إليَّ ونحن نتواصل من خلال دموعنا : تعالى يا أستاذ ، تعالى ياوالدي .
سمعت العشرات من حولي ، فرادى وجماعات ، يقولون : لا يا حضرة الضابط ، أنا من سيدفع ، أنا سأشتري له كذا وكذا ، أنا … أنا … أنا ….
وبالفعل كان البعض قد تحرك ، وأخذ يجمع ما طالته يده ، من فوق الأرفف ، ويعبئه في السلات ، ويأتينا بها ، بينما الضابط وجنوده يقفون أمامنا ، والرجل خلف ظهري متعلقا بي لم يزل .
رفضت طبعًا كل مبادرات هؤلاء ، وطلبت من الضابط أن يخرج بنا من هذا السوق الذي تباع فيه كرامة الإنسان إلى هذا الحد .
أحسست أن الرجل قد انهار فجلس على الأرض ، ولكنه لايزال متمسكأ بي ، ممسكًا برجليَّ .
التفتت إليه ، نزلت على الأرض ، أحتضنته ، قبلت رأسه ووجهه ويديه ، اختلطت دموعه بدموعي ودموع الحاضرين .
تمتم : عشان خاطر النبي كفاية إهانة ، وذل ، وقلة ، قيمة ، أخرجني من هنا ، أبوس إيدك ، شيلني يا ابني ، مش قادر أقف على رجليَّ .
حملته على كتفي ، وخرجت به ، وخلفنا الضابط وجنوده ، وجمع من الناس ، كنا كأننا نمشي في جنازة .